خرجت من المنزل في وقت لم أعتد الخروج فيه، شيء ما دفعني للخروج راجلاً!

مشيت مثقل الخطى هكذا أحسست بخطى ثقيلة وهم على الصدر وضيق في النفس وشيء من الكدر في المزاج ربما كان هذا الدافع للخروج ماشياَ!!

مشيت هائماً على وجهي لا أدري إلى أين، تركت نفسي هي التي تختار المكان، وتركت جسدي يحدد مده السير هكذا قررت في داخلي وبقى ذهني يجول في رحابة الضيق وقلة الحيلة!

هكذا كنت حتى وجدتني أمام باب الجامع، قلت لنفسي لم أعتد منك حسن الاختيار، وشكرت جسدي لأنه لم يتعب إلا على أعتاب الجامع!

دخلت في غير وقت صلاة على غير العادة، سميت الله ثم دلفت أجر خطاي إلى وسط الجامع….

تأملت قليلاً المكان إذ بالسكون والهدوء وحسن الإضاءة مع نظافة السجاد جعلتني أحس بشيء من الراحة، أخذت أجول بناظري في المكان فلم أجد إلا رجال قليل هنا وهناك في جنبات المسجد، وفي الصف الأول وجدت رجلان متجاوران الأول كان مطرق الرأس حاني الظهر قد ضم بيديه ساقيه بعد أن ثنى ركبتيه، والثاني لم ينهي تحية المسجد بعد، قررت أن أجلس خلفهم رغم سعة المكان!

اتجهت إلى الصف الثاني بحيث أكون خلفهم تماماً أديت سنة دخول المسجد نقرتها ثم جلست…

كان الثاني يحاول أن يحادث الأول يبدو أن حاله لم تعجبه وكنت أنا خلفهم أرقب تصرفاتهم لحظه بلحظة…!!

سلم الثاني على الأول وقال: السلام عليكم يا أخي….
رفع الأول رأسه على خجل وقال بصوت يكاد لا يُسمع: وعليكم السلام….

الثاني: أنا أخوك سامي وأراك على حال لا تسر هل بك فاقه! أم أصاب أهلك بلاء؟
الأول: يرفع رأسه ويخرج من جيبه منديلاً يمسح به أنفه ثم ينزل رأسه ثانيه ويقول: دعني يا أخي فالله أعلم بحالي!
سامي وهو يربت بيده على كتفه: لا عليك يا أخي أطمئن أن استطعت مساعدتك وإلا لن أضرك، قل لي: ما أسمك؟
الأول: عبدالرحمن…
سامي: عبدالرحمن حدثني ما بك؟
عبدالرحمن يرفع رأسه وهو يدافع عبراته ليقول: شـ …شـ … ش حمه….شحمه ثم أجهش باكياً!!
سامي وقد ذهل من رد عبدالرحمن: شحمه ماذا؟ هل سرقت؟
قال عبدالرحمن: شحمه صغيره عصيت بها ربي!
عصيت ربي بعيني الصغيرتين وهو العظيم الجبار!
سامي وقد أحس بما يحس به عبدالرحمن: ها قد عرفت قدرها الآن والحمدلله…
قاطعه عبدالرحمن: سمعي وجلدي وعظمي ولحمي بل كلي وحتى قلبي….
سامي وقد أمتلئت عينيه بالدموع وكادت أن تفيض وهو يقترب من عبدالرحمن: عبدالرحمن عبدالرحمن اسمك عبدالرحمن والرحمن رحمان ثم نزلت على خده دمعات….
وأخذ يذكر له بعض الكلمات الطيبة التي تبث الأمل وتؤنس القلب وتريح النفس…
إلى أن تلى بصوت عذب شجي:
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)
 ثم تلى:
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

عندها ألتفت عبدالرحمن لسامي وتعانقا وهو يقول اسمي عبدالرحمن والرحمن رحمان…أنا عبدالرحمن والرحمن رحمان….

راقبت هذا كله وكنت أتعايش معهما وكأني تارة في مقام عبدالرحمن وتارة في دور سامي…
حتى لحظه العناق، لم أشعر إلا ودمعات من عيني تتساقط وأنا أقول في نفسي (وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ )، وهممت أن أذهب لهما وأصافحهما….

وإذا بصوت الأذان يعلن لنا (نحن الثلاثة) يوم جديد وحياة جديدة…

تمت،

 

حقيقة: لم تكن هذه القصة واقعيه إطلاقا ولكن الحقيقة التي نؤمن بها “أننا عباد الرحمن، وأن الرحمن رحمان”